logo

قديم 16-12-2023, 04:34 PM
  المشاركه #1
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



الحمد لله الغفار؛ أمر عبادَه بالاستغفار ومداومة الأذكار لتكفير الذنوب والآثام، والصلاة والسلام على سيد الأنام خير مَن ذكر ربه وصلى وصام وعلى آله وصحبه الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين آمين .... أما بعد:


هذا وأرجو من الله المولى الكريم لي ولإخواني المسلمين الفائدة والعلم النافع والعمل الصالح؛ إنه جواد كريم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* * *


تمهيد في فضل الذكر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وآمركم أن تذكروا الله تعالى؛ فإن مَثَلَ ذلك مَثَلُ رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله»([1]).

فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله – تعالى، وأن لا يزال لهجًا بذكره؛ فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة؛ فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله – تعالى - انخنس عدوُّ الله، وتصاغر، وانقمع؛ حتى يكون كالوصع ([2])، وكالذباب، ولهذا سمي الوسواس الخناس؛ أي: يوسوس في الصدور، فإذا ذُكر الله – تعالى؛ خنس؛ أي: كف وانقبض.

وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله – تعالى؛ خنس.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما عَمِل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله – عز وجل»([3]).

وقال معاذ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مَليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟».

قالوا: بلى يا رسول الله!

قال: «ذكر الله – عز وجل»([4]).

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمْدان، فقال: «سيروا، هذا جُمْدانُ، سبقَ المفَرَّدون».

قيل: وما المفَرَّدونَ يا رسول الله؟

قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»([5]).

وفي «السنن» عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله – تعالى – فيه؛ إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة»([6]).

وفي رواية الترمذي: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةً؛ فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم»([7]).

وفي «صحيح مسلم» عن الأغرِّ أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده»([8]).

وفي «الترمذي» عن عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبَّثُ به، ولا تكثر عليَّ فأنسى.

وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كَثُرَت عليَّ، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به.

قال: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى»([9]).

وفي «صحيح البخاري» عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثَلُ الحيِّ والميتِ»([10]).

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله – تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبْت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيتُه هَرولة»([11]).

وفي «الترمذي» عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا».

قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟

قال: «حِلَقُ الذِّكْرِ»([12]). فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.

قال الله – تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45]؛ فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معًا؛ ليكونوا على رجاء من الفلاح.

وقد قال - تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41].

وقال - تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [الأحزاب: 35]؛ أي: كثيرًا.

وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200].

ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة؛ لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين؛ فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله – عز وجل - كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله.

وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله – تعالى – كذا وكذا سنةً، ثم أعرض عنه لحظة؛ لكان ما فاته أعظم مما حصله.

وذكر البيهقي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من ساعة تَمُرُّ بابن آدم لا يذكر الله – تعالى – فيها إلا تحسَّر عليها يوم القيامة»([13]).

وذُكِرَ عن معاذٍ بن جبل يرفعه أيضًا: «ليس تَحَسُّرُ أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله – عز وجل - فيها»([14]).

وعن معاذٍ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحبُّ إلى الله – عز وجل؟ قال: «أن تموت ولسانُك رطبٌ من ذكر الله – عز وجل»([15]).

وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله – عز وجل.

ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها؛ فجلاؤه بالذكر؛ فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء؛ فإذا ترك صدئ، فإذا ذكره جلاه.

وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب.

وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.

فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه؛ فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لمَّا تراكم عليه الصدأ أَظْلمَ؛ فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه؛ فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ وركبه الران فسد تصوره وإدراكه؛ فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة، واتباع الهوى؛ فإنها يطمسان نور القلب، ويعميان بصره.

قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل، فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمرُه فرطًا.

ومعنى الفُرُط قد فُسِّرَ بالتضييع؛ أي: أمره الذي يجب أن يلزمه، ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قد فَرَّطَ فيه. وفُسِّرَ بالإسراف: أي: قد أفرط. وفُسِّرَ بالإهلاك. وفُسِّرَ بالخلاف للحقِّ.

وكلها أقوال متقاربة.

والمقصود أن الله – سبحانه وتعالى – نهى عن طاعة مَن جمع هذه الصفات؛ فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه؛ فإن وَجَدَهُ كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله – تعالى – واتباع السُّنَّة وأمرُه غير مفروط عليه؛ بل هو حازم في أمره، فليتمسك بغرزه ([16]).

ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر؛ فمثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت.

* * *


فوائد الذكر
ثم قال ابن القيم – رحمه الله تعالى: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة:

إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.

الثانية: أنه يرضي الرحمن – عز وجل.

الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.

الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.

الخامسة: أنه يقوي القلب والبدن.

السادسة: أنه ينور الوجه والقلب.

السابعة: أنه يجلب الرزق.

الثامنة: أنه يكسو الذاكرَ المهابةَ والحلاوة والنّضرة.

التاسعة: أنه يورِّثه المحبةَ التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة.

وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر؛ فمن أراد أن ينال محبة الله – عز وجل - فلْيلهج بذكره؛ فإنه الدرس والمذاكرة؛ كما أنه باب العلم؛ فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم.

العاشرة: أنه يورثه المراقبةَ، حتى يُدخله في باب الإحسان؛ فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان؛ كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.

الحادية عشرة: أنه يورثه الإنابة؛ وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله؛ فيبقى الله – عز وجل – مفزعه وملجأه، وملاذه، وقبلة قلبه، ومهربه عند النوازل والبلايا.

الثانية عشرة: أنه يورث القرب منه؛ فعلى قدر ذكره لله – عز وجل – يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بعده عنه.

الثالثة عشرة: أنه يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة، وكلما أكثر الذكر ازداد من المعرفة.

الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه – عز وجل – وإجلاله؛ لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى؛ بخلاف الغافل؛ فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.

الخامسة عشرة: أنه يورِّثه ذكر الله – تعالى – له؛ كما قال – تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].

ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا.

وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه – تبارك وتعالى: «مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم»([17]).

السادسة عشرة: أنه يورِّث حياة القلب:

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله تعالى روحه – يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!

السابعة عشرة: أنه قوت القلب والروح؛ فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.

وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله – تعالى – إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غَدْوَتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقَطَتْ قوَّتي. أو كلامًا قريبًا من هذا.

وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجماع نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه.

الثامنة عشرة: أنه يورِّث جلاءَ القلب من صداه كما تقدم في الحديث.

وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار، وقد تقدم هذا المعنى.

التاسعة عشرة: أنه يَحُطُّ الخطايا ويُذهبها؛ فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.

العشرون: أنه يزيلُ الوحشةَ بين العبد وبين ربه – تبارك وتعالى؛ فإن الغافل بينه وبين الله – عز وجل – وحشة لا تزول إلا بالذكر.

الحادية والعشرون: أن ما يذكر به العبدُ ربَّه – عز وجل – من جلاله، وتسبيحه، وتحميده، يذكر باصطحابه عند الشدة.

الثانية والعشرون: أن العبد إذا تعرَّف إلى الله – تعالى – بذكره في الرخاء عرفه في الشدة.

الثالثة والعشرون: أنه ينجِّي من عذاب الله – تعالى – كما قال معاذ – رضي الله عنه - ويروى مرفوعًا: «ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله – عز وجل – من ذكر الله - تعالى»([18]).

الرابعة والعشرون: أنه سبب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر؛ كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخامسة والعشرون: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل.

فإن العبد لا بد له من أن يتكلم؛ فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذكر أوامره؛ تكلم بهذه المحرمات، أو بعضها، ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر الله تعالى.

والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك؛ فمن عوَّد لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله – تعالى - ترطَّب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

السادسة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبها إليه، وأولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.

السابعة والعشرون: أنه يسعد الذاكر بذكره، ويسعد به جليسه، وهذا هو المبارك أينما كان، والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به مجالسه.

الثامنة والعشرون: أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة؛ فإن كان مجلس لا يذكر العبد فيه ربه – تعالى – كان عليه حسرة وتِرة يوم القيامة.

التاسعة والعشرون: أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله – تعالى – العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه، والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف، وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن – عز وجل.

الثلاثون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين.

الحادية والثلاثون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجَلِّها وأفضلها؛ فإن حركة اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة؛ بل لا يمكنه ذلك.

الثانية والثلاثون: أنه غراس الجنة؛ فقد روى الترمذي في «جامعه» من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيم الخليل – عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر». قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود ([19]).

وفي الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: سبحان الله وبحمده؛ غُرست له نخلة في الجنة». قال الترمذي: حديث حسن صحيح ([20]).

الثالثة والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يرتَّب على غيره من الأعمال؛ ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه. ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مئة مرة؛ حُطَّت عنه خطاياهُ، وإن كانت مثل زبد البحر»([21]).

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس»([22]).

وفي الترمذي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربًا، والإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً؛ كان حقًا على الله أن يرضيه»([23]).

وفي الترمذي: «من دَخَلَ السُّوقَ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة»([24]).

الرابعة والثلاثون: أن دوام ذكر الرب – تبارك وتعالى – يوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده؛ فإن نسيان الرب – سبحانه وتعالى – يوجب نسيان نفسه ومصالحها.

قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19].

وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها، فهلكت وفسدت ولا بد؛ كمن له زرع، أو بستان، أو ماشية، أو غير ذلك؛ مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله، ونسيه، واشتغل عنه بغيره، وضيَّع مصالحه؛ فإنه يفسد ولا بُدَّ.

هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه؛ فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها، ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يصلحها؟! فما شئت من فساد وهلاك وخيبة وحرمان.

وهذا هو الذي صار أمره كله فُرطًا، فانفرط عليه أمره، وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسباب القطوع والخيبة والهلاك.

ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله – تعالى – واللهج به، وأن لا يزال اللسان رطبًا به، وأن يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكن في شدة الشتاء والسموم.

فحقيق بالعبد أن ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟! هذا هلاك لا بد منه، وقد يعقبه صلاح لا بد، وأما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها؛ فمن نسي الله – تعالى – أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة.

قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124-126].

أي: تنسى في العذاب كما نسيت آياتي، فلم تذكرها، ولم تعمل بها.

وإعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله؛ وهو أن يذكر الذي أنزله في كتابه، وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه، وأسمائه، وصفاته، وأوامره، وآلائه، ونعمه؛ فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه – تعالى ؛ فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل، أو مضاف إضافة الأسماء المحضة؛ أي: من أعرض عن كتابي، ولم يتله، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولا فهمه، فإن حياته، ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه، منكدة معذبًا فيها.

والضنك: الضيق، والشدة، والبلاء.

ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ.

والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا، وحاله في البرزخ؛ فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو: شدة، جهد، وضيق، وفي الآخرة يُنسى في العذاب.

وهذا عكس أهل السعادة والفلاح؛ فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب؛ قال – تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].

فهذا في البرزخ ([25]).

وقال – تعالى - ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 41].

وقال – تعالى - ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: 3].

فهذه الآخرة: وقال – تعالى -: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

فهذه أربعة مواضع ذكر – تعالى – فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا، وجزاء في الآخرة؛ فالإحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد، ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن؛ من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه – عز وجل – وطاعته وذكره، ونعيم روحه بمحبته؛ (لكفى).

وذكره وفرحه بربه – سبحانه وتعالى – أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه.

وما يُجازى به المسيء؛ من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية، وجهنم حاضرة.

والإقبال على الله – تعالى – والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبته.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: إن في الدنيا جنة؛ من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري؛ إن رُحْتُ فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة.

أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: «اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك»([26])([27]) ما شاء الله.

وقال لي مرة: المحبوس من حُبِسَ قلبه عن ربه – تعالى – والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].

وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرَّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا، وقوة، ويقينًا، وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها!

قيل: وما أطيب ما فيها؟!

قال: محبة الله – تعالى – ومعرفته، وذكره. أو نحو هذا.

وقال آخر: إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا.

وقال آخر: إنه لتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.

فمحبة الله – تعالى – ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين.

وإنما تقرُّ عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله – عز وجل ؛ فمن قرَّت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.

وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة؛ وأما ميت القلب فيوحشك ماله، ثم فاستأنس بغيبته ما أمكنك؛ فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، وفارقه بسرَّك، ولا تشغل به عما هو أولى بك.

واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله – عز وجل ، وانقطاعك عنه، وضياع وقتك عليك، وضعف عزيمتك، وتفرُّق همِّك.

فإذا بليت بهذا – ولا بد لك منه – فعامل الله – تعالى – فيه، واحتسب عليه ما أمكنك، وتقرَّب إلى الله – تعالى – بمرضاته فيه، واجعل اجتماعك به متجرًا لك، لا تجعله خسارة، وكن معه كرجل سائر في طريقه، عرض له رجل وقفه عن سيره، فاجتهد أن تأخذه معك وتسير به، فتحمله ولا يحملك، فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بلا ركب الدرب [فتنقطع]، ودعه ولا تلتفت إليه؛ فإنه قاطع الطريق، ولو كان من كان، فانجُ بقلبك، وضنَّ بيومك وليلتك، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة، فتؤخذ، أو يطلع الفجر [وقد فاتك الركب] أني لك بلحاقهم؟!

الخامسة والثلاثون: أن الذكر يُسيَّر العبد وهو في فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسير العبد وهو نائم على فراشه، فيسبق القائم مع الغفلة، فيصبح هذا النائم وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل في ساقه الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

السادسة والثلاثون: أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده، ويسعى بين يديه على الصراط؛ فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله – تعالى.

قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

فالأول: هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله، ومحبته، ومعرفته، وذكره.

والثاني: هو الغافل عن الله - تعالى ، المعرض عن ذكره ومحبته.

والشأن كل الشأن، والفلاح كل الفلاح، في النور، والشقاء كل الشقاء في فواته.

ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في سؤال ربه – تبارك وتعالى - حين يسأله أن «يجعله في لحمه، وعظامه، وعصبه، وشعره، وبشره، وسمعه، وبصره، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، وخلفه، وأمامه، حتى يقول: واجعلني نورًا»([28]).

فسأل ربه – تبارك وتعالى – أن يجعل النور في ذَرَّاته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وجملته نورًا.

فدين الله – عز وجل – نور، وكتابه نور، ورسوله نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه.

وقد قال - تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ [الزمر: 69].

فإذا جاء - تبارك وتعالى - يوم القيامة للفصل بين عباده، وأشرقت بنوره الأرض، وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تكوَّر والقمر يخسف، ويذهب نورهما، وحجابه - تبارك وتعالى - النور.

قال أبو موسى الأشعري: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات، فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»([29]).

ثم قرأ ([30]): ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [النمل: 8].

فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه، ولولاه سبحانه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره.

ولهذا لما تجلى تبارك وتعالى للجبل، وكشف من الحجاب شيئًا يسيرًا ساخ الجبل في الأرض، وتدكدك، ولم يقم لربه تبارك وتعالى.

وهذا معنى قول ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103].

قال: ذلك الله – عز وجل – إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء.

وهذا من بديع فهمه – رضي الله عنه – ودقيق فطنته، كيف وقد دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه الله التأويل.

فالرب – تبارك وتعالى – يُرى يوم القيامة بالأبصار عيانًا، ولكن يستحيل إدراك الأبصار له، وإن رأته؛ فالإدراك أمر وراء الرؤية، وهذه الشمس - ولله المثل الأعلى - نراها ولا ندركها كما هي عليه، ولا قريبًا من ذلك.

ولذلك قال ابن عباس لمن سأله عن الرؤية وأورد عليه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾؛ فقال: ألستَ ترى السماء؟

قال: بلى.

قال: أفتدركها؟

قال: لا.

قال: فالله تعالى أعظم وأجل.

وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلاً لا يعقله إلا العالمون؛ فقال – سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35].

قال أبيٌّ بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم.

وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه؛ من معرفته، ومحبته، والإيمان به، وذكره، وهو نوره الذي أنزل إليهم، فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم ثم تقوى مادته؛ فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم - بل وثيابهم ودورهم - يبصره من هو من جنسهم، وسائر الخلق له منكر.

فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم، يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا؛ فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطى نورًا على إبهام قدمه؛ يضيء مرة، ويطفيء أخرى؛ إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا؛ فأعطي على الجسر بمقدار ذلك؛ بل هو نفس نوره ظهر له عيانًا.

ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا؛ بل كان نوره ظاهرًا، لا باطنًا، أُعطي نورًا ظاهرًا، مآله إلى الظلمة والذهاب.

وضرب الله – عز وجل – لهذا النور، ومحله وحامله ومادته مثلاً بالمشكاة ؛ وهي: الكوَّة في الحائط؛ فهي مثل المصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه؛ وهي مثل القلب، وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافًا هي في قلب المؤمن؛ وهي: الصفاء، والرقة، والصلابة؛ فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله – تعالى – ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفةٌ من صفة أخرى، ولا تعارضها؛ بل تساعدها وتعاضدها: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].

وقال – تعالى - ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

وقال - تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73].

وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض:

أحدهما: قلب حجري قاس لا رحمة فيه، ولا إحسان، ولا برَّ، ولا له صفاء يرى به الحق؛ بل هو جبار جاهل، لا علم له بالحق، ولا رحمة للخلق.

وبإزائه قلب ضعيف، مائي، لا قوة فيه، ولا استمساك؛ بل يقبل كل صورة، وليس له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره، وكل ما خالطه أثر فيه؛ من قوي وضعيف، وطيب وخبيث.

وفي الزجاجة مصباح؛ وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك النور مادة، وهو زيت قد عُصر من زيتونه في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أول النهار وآخره؛ فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار؛ فهذه مادة نور المصباح.

وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن؛ هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف؛ بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها؛ لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية؛ بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء؛ فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.

ولما كان الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار، فاشتدت بها إضاءته، وقويت مادة ضوء النار به، كان ذلك نورًا على نور.

وهكذا المؤمن؛ قلبه مضيء، يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي، فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته، فازداد نورًا بالوحي على نوره الذي فطره الله – تعالى – عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نور على نور، فيكاد ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثرًا، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه من شهادة الوحي والفطرة.

فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة؛ فذكر – سبحانه تعالى – نوره في السماوات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين، النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار، الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي؛ فهما نوران عظيمان، أحدهما أعظم من الآخر.

وكما أنه إذا فُقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره؛ لأن الحيوان إنما يتكون حيث النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور، ولا يعيش فيها حيوان، ولا يتكون ألبته؛ فكذلك أمةٌ فُقِد فيها نور الوحي والإيمان، وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد، لا حياة له ألبتة؛ كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه.

والله – سبحانه – وتعالى – يقرن بين الحياة والنور؛ كما في قوله – عز وجل-: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

وكذلك قوله – عز وجل -: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52].

وقد قيل: إن الضمير في «جعلناه» عائد إلى الأمر.

وقيل: إلى الكتاب.

وقيل: إلى الإيمان.

وقيل: إلى الروح. أي: جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورًا؛ فسماه روحًا لما يحصل به من الحياة، وجعله نورًا لما يحصل به من الإشراق والإضاءة، وهما متلازمان؛ فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الاستنارة والإضاءة، وجدت الحياة؛ فمن لم يَقبل قلبُه هذه الروحَ فهو ميت مظلم؛ كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو هالك مضمحل.

فلهذا يضرب – سبحانه وتعالى – المثلين: المائي والناري معًا؛ لما يحصل من الماء من الحياة، وبالنار من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17].

وقال: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار فيها الإحراق، والإشراق؛ فذهب بما فيه الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيه الأذى والإحراق.

وكذلك حال المنافقين؛ ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، وقلوبهم قد صليت بحرَّها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاها الله – تعالى – إياها يوم القيامة نارًا موقدة تطلع على الأفئدة.

فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقر ثم جحد، فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى؛ كما قال – تعالى – في حق إخوانهم من الكفار: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 39].

وقال – تعالى -: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171].

وشبه – تعالى – حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار، وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله؛ لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين، وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، قد شاهدوا الضوء، ورأوا النور عيانًا، ولهذا قال – تعالى – في حقهم: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: 18] إليه؛ لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا، فهم لا يرجعون إليه.

وقال – تعالى – في حق الكفار: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا به، بل لا يزالون في ظلمات الكفار، صم بكم عمي.

فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا.

لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانًا واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبًا خالية، ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات، فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة، فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها، فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشهادة الباطل، فلم تصغ بعده إلى الملام، ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأسر الهوى والشهوة، و:

ما لِجُرْحٍ بِمَيْتٍ إيلامُ

والمثل الثاني المائي قوله – تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 19].

الصيِّب: المطر الذي يصوب من السماء؛ أي: ينزل منها بسرعة. وهو مثل القرآن الذي به حياة القلوب؛ كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، فأدرك المؤمنين ذلك منه، وعلموا ما يحصل به من الحياة التي لا خطر لها، فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق، وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلات التي حذر الله بها من خالف أمره، وأخبر أنه منزلها بمن كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما فيه من الأوامر الشديدة؛ كجهاد الأعداء، والصبر على الأمر أو الأوامر الشاقة على النفوس التي هي بخلاف إرادتها؛ فهي كالظلمات والرعد والبرق، ولكن من علم مواقع الغيث، وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق؛ بل يستأنس لذلك، ويفرح به؛ لما يرجو من الحياة والخصب.

وأما المنافق؛ فإنه عمي قلبه؛ لم يجاوز بصره الظلمة، ولم يرَ إلا برقا يكاد يخطف البصر، ورعدا عظميا، وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه فوضع أصابعه في أذنيه؛ لئلا يسمع صوت الرعد، وهاله مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه وعظم نوره، فهو خائف أن يختطف معه بصره؛ لأن بصره أضعف أن يثبت معه، فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف، ويرى ذلك البرق الخاطف، فإن أضاء له ما بين يديه مشى في ضوئه، وإن فقد الضوء قام متحيرًا، ولا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصَّيِّب الذي به حياة الأرض والنبات، وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدًا، وبرقًا، وظلمة، ولا شعور له بما وراء ذلك؛ فالوحشة لازمة له، والرعب والفزع لا يفارقه.

وأما من أنس بالصَّيِّب وعلم أنه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم استأنس بذلك، ولم يستوحش منه، ولم يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من الصَّـيَّب.

فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل - عليه السلام - من عند رب العالمين – تبارك وتعالى – على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليحيي به القلوب والوجود أجمع؛ اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصَّـيِّب من الماء؛ حكمة بالغة، وأسبابٌ منتظمة نظمها العزيز الحكيم.

فكان حظ المنافق من ذلك الصَّيِّب سحابه ورعوده وبروقه فقط؛ لم يعلم ما وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب بما اطمأن به العالمون، وشك فيما تيقنه المبصرون العارفون، فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش نحو الظهيرة، وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد، وقد ذكر عن بعض الحيوانات أنها تموت من سمع الرعد!!

وإذا صادف لهذه العقول والأسماع والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، جالت فيها وصالت، وقامت بها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر بها قيلها وقالها؛ فملأت الأسماع من هذيانها، والأرض من دواوينها.

وما أكثر المستجيبين لهؤلاء، والقابلين منهم، والقائمين بدعوتهم، والمحامين عن حوزتهم، والمقاتلين تحت ألويتهم، والمكثرين لسوادهم!

ولعموم البلية بهم، وضرر القلوب بكلامهم، هتك الله أستارهم في كتابه غاية الهتك، وكشف أسرارها غاية الكشف، وبين علاماتهم، وأعمالهم، وأقوالهم، ولم يزل – عز وجل – يقول: ومنهم ... ومنهم ... ومنهم ... حتى انكشف أمرهم، وبانت حقائقهم، وظهرت أسرارهم.

وقد ذكر الله – سبحانه وتعالى – في أول سورة البقرة أوصاف المؤمنين والكفار والمنافقين؛ فذكر في أوصاف المؤمنين ثلاث آيات، وفي أوصاف الكفار آيتين، وفي أوصاف هؤلاء بضع عشرة آية؛ لعموم الابتلاء بهم، وشدة المصيبة لمخالطتهم؛ فإنهم من الجلدة، مظهرون الموافقة والمناصرة؛ بخلاف الكافر الذي قد تأبد بالعداوة، وأظهر السرية، ودعاك بما أظهره إلى مزايلته ومفارقته.

ونظير لهذين المثلين المثلان المذكوران في سورة الرعد في قوله – تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ [الرعد: 17].

فهذا هو المثل المائي، شَبَّه الوحي الذي أنزله بحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة له، بالأدوية الحاملة للسيل؛ فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كوادٍ كبير يسع ماءً كثيرًا.

وقلب صغير كواد صغير يسع علمًا قليلاً.

فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.

ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه؛ مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل، فيطفو على وجه الماء زبدًا عاليًا، يمر عليه متراكبًا، ولكن تحت الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه، حتى لا يبقى منه شيء، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقى الله تعالى به الأرض، فيحيي به البلاد والعباد، والشجر والدواب، والغثاء يذهب جفاءً يجفى، ويطرح على شفير الوادي.

فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله في القلوب، فاحتملته، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات، وزبد الشهوات الباطلة، يطفو في أعلاها، واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلب؛ فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً، ويزول شيئًا فشيئًا، حتى يزول كله، ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جذر القلب؛ يرده الناس، فيشربون، ويسقون، ويمرعون([31]).

وفي «الصحيح» من حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل ما بعثني الله – تعالى – به من الهدى كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادبُ أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا.

وأصاب منها طائفة أخرى؛ إنما هي قيعانٌ، لا تمسك الماء، ولا تنبت كلأ.

فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله – تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلِمَ وعلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أُرسلتُ به»([32]).

فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى:

ورثة الرسل، وخلفاء الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً ودعوة إلى الله – عز وجل – ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهؤلاء أتباع الرسل – صلوات الله عليهم وسلامه – حقًا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا الناس بها.

وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45].

أي: البصائر في دين الله – عز وجل ؛ فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوى يتمكن من تبليغه، وتنفيذه، والدعوة إليه.

فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورُزقت فيها فهما خاصًا؛ كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد سئل: هل خَصكُم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس؟

فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة؛ إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه([33]).

فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن غيرها.

الطبقة الثانية: فإنها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس، وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ووردوها كلٌّ بحسبه: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: 60].

وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَضَّرَ الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»([34])([35]).

وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن؛ مقدار ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي يقول فيه: سمعت، ورأيت. وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستنباط منه، حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا.

قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتاويه في سبعة أسفار كبار.

وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس.

وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي، وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة: 4].

وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق: يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.

وهكذا الناس بعده قسمان:

قسم: حفاظ، معتنون بالضبط والحفظ والأداء كما سمعوا، ولا يستنبطون، ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه.

وقسم: معتنون بالاستنباط، واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقُّه فيها.

فالأول: كأبي زرعة، وأبي حاتم، وابن داره.

وقبلهم: كبندار؛ محمد بن بشار، وعمرو الناقد، وعبد الرزاق.

وقبلهم: كمحمد بن جعفر؛ غندر، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان والضبط لما سمعوه من غير استنباط، وتصرف، واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص.

والقسم الثاني: كمالك، والشافعي، والأوزاعي، وإسحاق، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية.

فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله – تعالى – به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين قبلوه، ورفعوا به رأسًا.

وأما الطائفة الثالثة: وهم أشقى الخلق الذين لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأسًا؛ فلا حفظ، ولا فهم، ولا رواية، ولا دراية، ولا رعاية.

فالطبقة الأولى: أهل رواية ودراية.

والطبقة الثانية: أهل رواية ورعاية، ولهم نصيب من الدراية؛ بل حظهم من الرواية أوفر.

والطبقة الثالثة: الأشقياء؛ لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية؛ ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44].

فهم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، إنْ همُّ أحدهم إلا بطنُه وفرجه؛ فإن ترقت همته كان همه – مع ذلك – لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك؛ كانت في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية، فإن ارتفعت عن نصرة النفس الغضبية؛ كان همه في نصرة النفس الكلبية؛ فلم يعطها، إلى نصرة النفس السبعية، (وأما النفس الملكية) فلم يعطَها أحد من هؤلاء؛ فإن النفوس كلبية وسبعية وملكية ([36]).

فالكلبية: تقنع بالعظم، والكسرة، والجيفة، والعذرة.

والسبعية: لا تقنع بذلك؛ بل بقهر النفوس؛ تريد الاستعلاء عليها بالحق والباطل.

وأما الملكية: فقد ارتفعت عن ذلك، وشمرت إلى الرفيق الأعلى؛ فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى والإنابة إليه والطمأنينة به والسكون إليه وإيثار محبته ومرضاته، وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذ لتستعين به على الوصول إلى فاطرها ورِبّها ووليَّها، لا لتنقطع به عنه.

ثم ضرب – سبحانه وتعالى – مثلاً ثانيًا، وهو المثل الناري، فقال: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ [الرعد: 17].

وهذا كالحديد، والنحاس، والفضة، والذهب، وغيرها؛ فإنها تدخل الكير؛ لتمحص وتخلص من الخبث، فيخرج خبثها، فيرمى به ويُطرح، ويبقى خالصها؛ فهو الذي ينفع الناس.

ولما ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حكم من استجاب له، ورفع بهداه رأسًا، وحكم من لم يستجب له، ولم يرفع بهداه رأسًا، فقال: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [الرعد: 18].

والمقصود أن الله تعالى جعل الحياة حيث النور، والموت حيث الظلمة، فحياة الموجودين الروحي والجسمي بالنور، وهو مادة الحياة؛ كما أنه مادة الإضاءة، فلا حياة بدونه؛ كما لا إضاءة بدونه، وكما أنه به حياة القلب، فيه انفساحه، وانشراحه، وسعته.

ونور العبد هو الذي يصعد عمله وكلمه إلى الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يصعد إليه من الكلم إلا الطيب، وهو نور ومصدر عن النور، ولا من العمل إلا الصالح، ولا من الأرواح إلا الطيبة؛ وهي أرواح المؤمنين التي استنارت بالنور الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - والملائكة الذين خُلقوا من نور؛ كما في «صحيح مسلم» عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الشياطين من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»([37]).

فلما كانت مادة الملائكة من نور كانوا هم الذين يعرجون إلى ربهم – تبارك وتعالى – وكذلك أرواح المؤمنين هي التي تعرج إلى ربها وقت قبض الملائكة لها، فيفتح لها باب السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتوقف بين يدي الله – عز وجل – ثم يأمر أن يكتب كتابه في أهل عليين.

فلما كانت هذه الروح روحًا زاكية طيبة نيرة مشرقة، صعدت إلى الله – عز وجل – مع الملائكة.

وأما الروح المظلمة الخبيثة الكدرة فإنها لا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد إلى الله – تعالى ؛ بل ترد من السماء الدنيا إلى عالمها، وتحتقرها؛ لأنها أرضية سفلية، والأولى علوية سماوية؛ فرجعت كل روح إلى عنصرها وما هي منه، وهذا مبيَّن في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الإمام أحمد، وأبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه»، والحاكم، وغيرهم. وهو حديث صحيح ([38]).

والمقصود أن الله – عز وجل – لا يصعد إليه من الأعمال والأقوال والأرواح إلا ما كان منها نورًا، وأعظم الخلق نورًا أقربهم إليه وأكرمهم عليه.

وفي «المسند» من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله – تعالى – خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره؛ فمن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل؛ فلذلك أقول: جف القلم على علم الله - تعالى»([39]).

وهذا الحديث العظيم أصل من أصول الإيمان، وينفتح به باب عظيم من أبواب سر القدر وحكمته، والله – تعالى – الموفق.

وهذا النور الذي ألقاه عليهم – سبحانه وتعالى – هو الذي أحياهم وهداهم فأصابت الفطرة منه حظها، ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم، وأتمه بالروح الذي ألقاه على رسله – عليهم الصلاة والسلام، والنور الذي أوحاه إليهم، فأدركته الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور، فانضاف نور الوحي والنبوة إلى نور الفطرة، نور على نور، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، وحيت به الأرواح، وأذعنت به الجوارح للطاعات؛ طوعًا واختيارًا، فازدادت به القلوب حياة إلى حياتها.

ثم دلها ذلك النور على نور آخر هو أعظم منه وأجل، وهو نور الصفات العليا الذي يضمحل فيه كل نور سواه، فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدة نسبتها إلى القلب نسبة المرئيات إلى العين؛ ذلك لاستيلاء اليقين عليها، وانكشاف حقائق الإيمان لها، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن – تبارك وتعالى – بارزًا، وإلى استوائه عليه؛ كما أخبر به – سبحانه وتعالى – في كتابه، وكما أخبر به عنه رسوله، يدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقضي وينفذ، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول، فيذهب بدولة، ويأتي بأخرى.

والرسل من الملائكة – عليهم الصلاة والسلام – بين صاعد إليه بالأمر، ونازل من عنده به وأوامره ومراسيمه متعاقبة على تعاقب الآيات، نافذة بحسب إرادته، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، في الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها ويصرفها، ويحدث فيها ما يشاء، وقد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؛ فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السر – فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد، وخطر بقلبه، ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بعد، فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا – وله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء، وسعت نعمته إلى كل حي: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].

يغفر ذنبًا، ويفرج همًا، ويكشف كربًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانيًا، ويشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مُبتلىً، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين، لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق، فإنه لم يغض ما في يمينه، قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره، الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، يقبض سماواته كلها بيده الكريمة، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئًا، وأنا الذي أعيدها كما بدأتها، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها، لو أن أهل سماواته، وأهل أرضه، وإنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أن أشجار الأرض كلها – من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا – أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد؛ لفنيت الأقلام، ونفد المداد، ولم تنفد كلمات الخالق – تبارك وتعالى ؛ وكيف تفنى كلماته – جل جلاله – وهي لا بداية لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية؛ فهو أحق بالفناء والنفاذ؟! وكيف يفني المخلوق غير المخلوق؟!

هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.

ما للعباد عليه حق واجب

كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله وهو الكريم الواسع

هو الملك لا شريك له، والفرد ([40]) فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له، والعلي فلا شبيه له ولا سميَّ له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل مُلك زايل إلا مُلكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضل منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال؛ فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].

فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات اضمحل عندها كل نور، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة.

والمقصود أن الذكر ينور القلب والوجه والأعضاء، وهو نور العبد في دنياه، وفي البرزخ، وفي القيامة، وعلى حسب نور الإيمان في قلب العبد تخرج أعماله وأقواله، ولها نور وبرهان، حتى إن من المؤمنين من يكون نور أعماله إذا صعدت إلى الله – تبارك وتعالى – كنور الشمس، وهكذا نور روحه إذا قدم بها على الله – عز وجل، وهكذا يكون نوره الساعي بين يديه على الصراط، وهكذا يكون نور وجهه في القيامة، والله – تعالى – المستعان، وعليه الاتكال.

السابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأصول، وطريق عامة الطائفة، ومنشور الولاية؛ فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول إلى الله – عز وجل – فليتطهر، وليدخل على ربه – عز وجل – يجد عنده كل ما يريد؛ فإن وجد ربه – عز وجل؛ وجد كل شيء، وإن فاته ربه – عز وجل؛ فاته كل شيء.

الثامنة والثلاثون: في القلب خَلَّة وفاقة لا يسدها شيء ألبتة إلا ذكر الله – عز وجل؛ فإذا صار الذكر شعار القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة، ويفني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، فإذا كان غافلاً عن ذكر الله – عز وجل - فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته.

التاسعة والثلاثون: أن الذكر يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويقرب البعيد، ويبعد القريب:

الموضوع الأصلي : اضغط هنا    ||   المصدر :

القسم الإسلامي

 
 
قديم 16-12-2023, 04:35 PM
  المشاركه #2
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه، وانفراطها له، والحياة والنعيم في اجتماع قلبه وهمه، وعزمه وإرادته.

ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، على فوت حظوظه ومطالبه.

ويفرق أيضًا ما اجتمع عليه من ذنوبه، وخطاياه، وأوزاره، حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحل.

ويفرق أيضًا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان؛ فإن إبليس لا يزال يبعث له سرية بعد سرية، وكلما كان أقوى طلبًا لله – سبحانه وتعالى – وأمثل تعلقًا به وإرادة له، كانت السرية أكثف وأكثر وأعظم شوكة؛ بحسب ما عند العبد من مواد الخير والإرادة، ولا سبيل إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.

وأما تقريبه البعيد، فإنه يقرب إليه الآخرة التي يبعدها منه الشيطان والأمل، فلا يزال يلهج بالذكر حتى كأنه قد دخلها وحضرها، فحينئذ تصغر في عينه الدنيا، وتعظم في قلبه الآخرة.

ويبعد القريب إليه؛ وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة؛ فإن الآخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا، كلما قربت منه هذه مرحلة بعدت منه هذه مرحلة، ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر.

الأربعون: أن الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سِنَتِهِ، والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نوم ثقيل.

الحادية والأربعون: أن الذكر شجر تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها؛ إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة، ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها.

فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها؛ كما يبنى الحائط على رأسه، وكما يقوم السقف على حائطه؛ وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر – كما تقدم؛ فالغفلة نوم القلب أو موته.

الثانية والأربعون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة التامة؛ فهي معية بالقرب والولاية، والمحبة، والنصرة، والتوفيق؛ كقوله – تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [النحل: 128]، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر؛ كما في الحديث الإلهي: «أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه»([41]).

والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شيء، وهي أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي، وهي معية لا تدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تعلم بالذوق ([42])، وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبد فيها تمييزٌ بين القديم ([43]) والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلول يضاهي به النصارى، أو اتحاد يضاهي به القائلين بوحدة الوجود، وأن وجود الرب عين وجود هذه الموجودات؛ بل ليس عندهم رب وعبد، ولا خلق وحق؛ بل الرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخلق المشبه هو الحق المنزه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.

والمقصود أنه إن لم يكن مع العبد عقيدة صحيحة، وإلا فإذا استولى عليه سلطان الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه ولج في باب الحلول والاتحاد ولا بد.

الثالثة والأربعون: أن الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله – عز وجل – ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله – عز وجل.

وقد تقدم أن «من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه حتى يمسي» الحديث ([44]).

وقد تقدم حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟».

قالوا: بلى يا رسول الله!

قال: «ذكر الله». رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ([45]).

الرابعة والأربعون: أن الذكر رأس الشكر، فما شكر الله – تعالى – من لم يذكره.

قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله – تعالى – على كل أحيانه ([46]).

ولم تستثن حالة من حالة، وهذا يدل على أنه كان يذكر ربه – تعالى – في حال طهارته وجنابته.

وأما حال التخلي فلم يكن يشاهده أحد يحكي عنه، ولكن شرع لأمته من الأذكار قبل التخلي وبعده ما يدل على مزيد الاعتناء بالذكر، وأنه لا يخل به عند قضاء الحاجة وبعدها، وكذلك شرع للأمة من الذكر عند الجماع أن يقول أحدهم: «بسم الله، اللهم جَنَّبْنا الشيطان، وجَنَّبِ الشيطان ما رزقتنا»([47]).

وأما عند نفس قضاء الحاجة، وجماع الأهل، فلا ريب أنه لا يكره بالقلب؛ لأنه لا بد لقلبه من ذكر، ولا يمكنه صرف قلبه عن ذكر من أهو أحب شيء إليه؛ فلو كلف القلب نسيانه، لكان تكليفه بالمحال، كما قال القائل:

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الناقل

فأما الذكر باللسان على هذه الحالة فليس مما شرع لنا، ولا ندبنا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقل عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم.

ويكفي في هذه الحال استشعار الحياء، والمراقبة، والنعمة عليه في هذه الحالة، وهي من أجَلِّ الذكر؛ فذكر كل حال بحسب ما يليق بها، واللائق بهذه الحال التقنع بثوب الحياء من الله – تعالى – وإجلاله، وذكر نعمته عليه، وإحسانه إليه في إخراج هذا العدو المؤذي له الذي لو بقي فيه لقتله؛ فالنعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذي به.

وكذلك ذكره حال الجماع، ذكر هذه النعمة التي منَّ بها عليه، وهي أجلُّ نعم الدنيا، فإذا ذكر نعمة الله – تعالى – عليه بها هاج من قلبه هائج الشكر؛ فالذكر رأس الشكر.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «والله يا معاذ! إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»([48])([49]).

فجمع بين الذكر والشكر كما جمع – سبحانه وتعالى – بينهما في قوله – تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].

فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.

الخامسة والأربعون: أن أكرم الخلق على الله – تعالى – من المتقين من لا يزال لسانه رطبًا بذكره؛ فإنه اتقاه في أمره ونهيه، وجعل ذكره شعاره.

فالتقوى أوجبت له دخول الجنة، والنجاة من النار، وهذا هو الثواب والأجر.

والذكر يوجب له القرب من الله – عز وجل – والزلفى لديه وهذه هي المنزلة.

وعمال الآخرة على قسمين:

منهم من يعمل على الأجر والثواب.

ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة؛ فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله – تعالى – ويسابق إلى القرب منه.

وقد ذكر الله – تعالى – النوعين في سورة الحديد، في قول الله – تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18].

فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب.

ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ [الحديد: 19]؛ فهؤلاء أصحاب المنزلة والقرب، ثم قال: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ [الحديد: 19].

فقيل: هذا عطف على الخبر من ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾، أخبر عنهم بأنهم هم الصديقون، وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم، ثم أخبر عنهم أن لهم أجرًا، وهو قوله – تعالى: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾؛ فيكون قد أخبر عنهم بأربعة أمور:

أنهم صديقون، وشهداء، فهذه هي المرتبة والمنزلة.

قيل: ثم الكلام عند قوله – تعالى: [الصديقون].

ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء، فقال: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾.

فيكون قد ذكر المتصدقين أهل البر والإحسان، ثم المؤمنين الذين قد رسخ الإيمان في قلوبهم، وامتلؤوا منه؛ فهم الصديقون، وهم أهل العلم والعمل، والأولون أهل البر والإحسان، ولكن هؤلاء أكمل صديقية منهم.

ثم ذكر الشهداء، وأنه – تعالى – يُجري عليهم رزقهم ونورهم؛ لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله – تعالى – أثابهم الله – تعالى – عليها أن جعلهم أحياء عنده يرزقون، فيجري عليهم رزقهم ونورهم، فهؤلاء السعداء.

ثم ذكر الأشقياء، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: 10].

والمقصود أنه – سبحانه وتعالى – ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة إن غلبوا موسى – عليه الصلاة والسلام – فقالوا: ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: 41، 42].

أي: أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني.

فالعمال عملوا على الأجور، والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله، وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء.

السادسة والأربعون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله – تعالى – فينبغي أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله – تعالى.

السابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه؛ فالقلوب مريضة، وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى.

قال مكحول: ذكر الله – تعالى – شفاء، وذكر الناس داء.

كما قيل:

إذا مرضنا تداوينا بذكركم

فنترك الذكر أحيانًا فننتكس

الثامنة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله – عز وجل – ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها؛ فإن العبد لا يزال يذكر ربه – عز وجل – حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه.

قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره ذكره أو من يذكره.

فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره من يذكره، فحينئذ يتخذه عدوًا؛ كما اتخذ الذاكر وليًا.

التاسعة والأربعون: أنه ما استجلبت نعم الله – عز وجل – واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله – تعالى؛ فالذكر جلاب للنعم، دافع للنقم؛ قال – سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38].

وفي القراءة الأخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ ([50])﴾ [الحج: 38].

فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله – تعالى ؛ فمن كان أكمل إيمانًا، وأكثر ذكرًا كان دفع الله – تعالى – عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص ذكرًا بذكر، ونسيانًا بنسيان.

وقال – سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].

والذكر رأس الشكر كما تقدم، والشكر جلاب النعم، وموجب للمزيد.

قال بعض السلف – رحمة الله عليهم: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك ([51]).

الخمسون: أن الذكر يوجب صلاة الله – عز وجل – وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله – تعالى – عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز.

قال – سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 41 - 43].

فهذه الصلاة منه – تبارك وتعالى – ومن ملائكته إنما هي سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله – تبارك وتعالى – وملائكته وأخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ فأي خير لم يحصل لهم؟! وأي شر لم يندفع عنهم؟!

فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله، وبالله التوفيق.

الحادية والخمسون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا؛ فليستوطن مجالس الذكر؛ فإنها رياض الجنة.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة».

قلنا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟

قال: «مجالس الذكر».

ثم قال: «اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يجب أن يعلم منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه»([52]).

الثانية والخمسون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله – تعالى – فيه، كما أخرجاه في «الصحيحين» من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله ملائكة فُضُلاً عن كتاب الناس، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله – تعالى - تنادوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم».

قال: «فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا».

قال: «فيسألهم ربهم تعالى – وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟».

قال: «يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك».

قال: «فيقول: هل رأوني؟».

قال: «فيقولون: لا والله ما رأوك».

قال: «فيقول: كيف لو رأوني؟».

قال: «فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تحميدًا وتمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا».

قال: فيقول: «ما يسألونني؟».

قال: «يسألونك الجنة».

قال: «فيقول: وهل رأوها؟».

قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».

قال: «فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟».

قال: «يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة».

قال: «فيقول: فمم يستعيذون؟».

قال: «من النار».

قال: «يقول: وهل رأوها؟».

قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».

قال: «يقول: فكيف لو رأوها».

قال: «يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة».

قال: «يقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم».

قال: «فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة.

قال: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»([53]).

فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم؛ فلهم نصيب من قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم: 31].

فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشؤوم أين حل.

فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكل مضاف إلى شكه وأشباهه، وكل امريء يصير إلى ما ينسبه.

الثالثة والخمسون: أن الله – عز وجل – يباهي بالذاكرين ملائكته كما روى مسلم في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟

قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى.

قال: آلله، ما أجلسكم إلا ذاك؟

قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك.

قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟».

قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا.

قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟».

قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.

قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله – تبارك وتعالى – يباهي بكم الملائكة»([54]).

فهذه المباهاة من الرب – تبارك وتعالى – دليل على شرف الذكر عنده، ومحبته له، وأن له مزية على غيره من الأعمال.

الرابعة والخمسون: أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك.

الخامسة والخمسون: أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله – تعالى – والمقصود بها تحصيل ذكر الله – تعالى.

قال – سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14].

قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل؛ أي: لأذكرك بها.

وقيل: مضاف إلى المذكور؛ أي: لتذكروني بها، واللام في هذا لام التعليل.

وقيل: هي اللام الوقتية؛ أي: أقم الصلاة عند ذكري؛ كقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78].

وقوله – تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47].

وهذا المعنى يراد بالآية؛ لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر؛ لأن هذه اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف، والذكر مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف؛ أي: عند وقت ذكري، وهذا محتمل.

والأظهر أنها لام التعليل؛ أي: أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه فذكر الله – تعالى – سابق على ذكره، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره؛ فالمعاني الثلاثة حق.

وقال – سبحانه وتعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

فقيل: المعنى: إنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكر من ذكره، ولذكر الله – تعالى – إياكم أكبر من ذكركم إياه.

وهذا يروى عن ابن عباس، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن مسعود – رضي الله عنهم.

وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية: [ولذكر الله أكبر]؛ قال: هو قوله – تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾؛ فذكر الله – تعالى – لكم أكبر من ذكركم إياه.

وقال ابن زيد وقتادة: معناه: وذكر الله أكبر من كل شيء.

وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟! [ولذكر الله أكبر].

ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ...» الحديث ([55]).

وكان شيخ الإسلام أبو العباس – قدس الله روحه – يقول: الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله – تعالى – ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.

وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.

السادسة والخمسون: أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله – عز وجل ؛ فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – وأفضل الحاج أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – وهكذا سائر الأحوال.

وقال عبيد بن عمير: إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله – عز وجل.

السابعة والخمسون: أن إدامته تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية، أو مالية، أو بدنية مالية؛ كحج التطوع.

وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم.

فقال: «وما ذاك؟».

قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون.

فقال: «ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم».

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: «تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ...» الحديث متفق عليه ([56])([57]).

فجعل الذكر عوضًا لهم عما فاتهم من الحج، والعمرة، والجهاد، وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر.

فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا – إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم – التعبد بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليهم، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»([58]).

وفي حديث عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي خلال الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: «عليك بذكر الله - تعالى».

قال: ويكفيني يا رسول الله؟

قال: «نعم، ويفضل عنك»([59]).

فدله الناصح - صلى الله عليه وسلم - على شيء يعينه على شرائع الإسلام، والحرص عليها، والاستكثار منها؛ فإنه إذا اتخذ ذكر الله – تعالى – شعاره أحبه وأحب ما يحب؛ فلا شيء أحب إليه من التقرب بشرائع الإسلام، فدله - صلى الله عليه وسلم - على ما يتمكن به من شرائع الإسلام، وتسهل به عليه، وهو ذكر الله – عز وجل.

الثامنة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها، ونعيمه وسروره بها؛ بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل، والتجربة شاهدة بذلك.

التاسعة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذكر الله – عز وجل – على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، فذكر الله – تعالى – هو الفرج بعد الشدة؛ واليسر بعد العسر، والفرج بعد الغم والهم.

الستون: أن ذكر الله – عز وجل – يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله – عز وجل ؛ إذ بحسب ذكره يجد الأمن، ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له، والغافل خائف مع أمنه، حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حسن قد جرب هذا وهذا. والله المستعان.

الحادية والستون: أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه، وإقدامه، وكتابه أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.

وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعليًا – رضي الله تعالى عنهما – أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم»([60]).

فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم.

الثانية والستون: أن عُمَّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق.

الثالثة والستون: أن الذكر سبب لتصديق الرب- عز وجل – عبده، فإنه أخبر عن الله – تعالى – بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه، ومن صدقه الله – تعالى – لم يحشر مع الكاذبين، ورُجي له أن يحشر مع الصادقين.

روى أبو إسحاق عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري – رضي الله عنهما – أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر».

قال: «يقول الله – تبارك وتعالى: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، وأنا أكبر.

وإذا قال: لا إله إلا الله وحده.

قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي.

وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لا شريك لي.

وإذا قال: لا إله إلا الله، له الملك، وله الحمد.

قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك، ولي الحمد.

وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي.

قال أبو إسحاق:

ثم قال الأغر شيئًا لم أفهمه، قلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: «من رزقهن عند موته لم تمسه النار»([61]).

الرابعة والستون: أن دور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء.

وكما أن بناءها بالذكر، فغراس بساتينها بالذكر؛ كما تقدم في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إبراهيم الخليل – عليه السلام: «أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»([62]). فالذكر غراسها وبناؤها.

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثروا من غراس الجنة».

قالوا: يا رسول الله! وما غراسها؟

قال: «ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله»([63]).

الخامسة والستون: أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال كان الذكر سدًا في تلك الطريق، فإذا كان ذكرًا دائمًا كاملًا كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه.

السادسة والستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر؛ كما تستغفر للتائب.

السابعة والستون: أن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله – عز وجل – عليها.

الثامنة والستون: أن كثرة ذكر الله – عز وجل – أمان من النفاق؛ فإن المنافقين قليلوا الذكر لله – عز وجل.

قال الله – عز وجل – في المنافقين: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

وقال كعب: من أكثر ذكر الله – عز وجل – برئ من النفاق، ولهذا – والله أعلم – ختم الله – تعالى – سورة المنافقين بقوله – تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9].

فإن في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله – عز وجل – فوقعوا في النفاق.

وسئل بعض الصحابة – رضي الله عنهم – عن : منافقون هم؟

قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً.

فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله – عز وجل ، وكثرة ذكره أمان من النفاق، والله – عز وجل – أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله – عز وجل.

التاسعة والستون: أن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء؛ فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، والنعيم الذي يحصل لقلبه، لكفى به، ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة.

قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله – عز وجل ؛ فليس شيء من الأعمال أخف مؤونة منه، ولا أعظم لذة، ولا أكثر فرحة وابتهاجًا للقلب.

السبعون: أنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا، ونورًا في الآخرة؛ فالذاكرون أنضر الناس وجوهًا في الدنيا، وأنورهم في الآخرة.

الحادية والسبعون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع، تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة؛ فإن البقعة، والدار والجبل، والأرض، تشهد للذاكر يوم القيامة.

قال – تعالى - ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 1-5].

فروى الترمذي في «جامعه» من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾.

قال: «أتدرون ما أخبارها؟».

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا وكذا».

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ([64]).

والذاكر لله عز وجل في سائر البقاع مكثر شهوده، ولعلهم أو أكثرهم أن يقبلوه يوم القيامة، يوم قيام الأشهاد، وأداء الشهادات، فيفرح ويغتبط بشهادتهم.

الثانية والسبعون: أن في الاشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس، وذمهم، وغير ذلك، فإن اللسان لا يسكت البتة؛ فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغٍ، ولا بد من أحدهما؛ فهي النفس: إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب: إن لم تسكنه محبة الله – عز وجل - سكنه محبة المخلوقين ولا بد، وهو اللسان: إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين.

الثالثة والسبعون: وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارة، فنذكرها هاهنا مبسوطة لعظيم الفائدة بها، وحاجة كل أحد – بل ضرورته – إليها؛ وهي أن الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشته أعداؤه المحنقون عليه غيظًا، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى؟! لا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله – عز وجل.

فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري – الذي شرحناه في هذه الرسالة – وقوله فيه: «وآمركم بذكر الله – عز وجل، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سراعًا، وانطلق حتى أتى حصنًا حصينًا، فأحرز نفسه فيه».

فكذلك الشيطان؛ لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله – عز وجل.

وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال – يعني إذا خرج من بيته : بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: كفيت، وهديت، ووقيت. وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن ([65]).

وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي»([66]).

وفي «صحيح البخاري» عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة رمضان أن احتفظ بها، فأتاني آت، فجعل يحثو الطعام، فأخذته، فقال: دعني؛ فإني لا أعود ... فذكر الحديث وقال: فقال له في الثالثة: أعلمك كلمات ينفعك الله بهن: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخلى سبيله، فأصبح، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، فقال: «صدقك، وهو كذوب»([67]).

وفي «الصحيحين» من حديث سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فيولد بينهما ولد، لا يضره شيطان أبدًا»([68]).

وقد ثبت في الصحيح أن الشيطان يهرب من الأذان.

قال سهيل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام – أو صاحب – لنا، فنادى مناد من حائط باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئًا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الشيطان إذا نُودي بالصلاة ولَّى وله حُصاصٌ».

وفي رواية: «إذا سمع النداء ولي وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين...» الحديث ([69]).

فهذا بعض ما يتعلق بقوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك العبد: يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله – تعالى.

الرابعة والسبعون: الذكر نوعان:

أحدهما: ذكر أسماء الرب – تبارك وتعالى – وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به – تبارك وتعالى، وهذا أيضًا نوعان:

أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».

و «سبحان الله وبحمده».

و «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

ونحو ذلك؛ فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه؛ نحو: «سبحان الله عدد خلقه»؛ فهذا أفضل من مجرد «سبحان الله»، وقولك: «الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق» أفضل من مجرد قولك: «الحمد لله».

وهذا في حديث جويرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم؛ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته»([70]).

الخامسة والسبعون: الخبر عن الرب – تعالى – بأحكام أسمائه وصفاته ([71])، نحو قولك: الله – عز وجل – يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته([72])، ونحو ذلك.

وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.

وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.

فالحمد لله: الإخبار عنه بصفات كماله – سبحانه وتعالى، مع محبته والرضى به، فلا يكون المحب الساكت حامدًا، ولا المثنى بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة والثناء؛ فإن كرر المحامد شيئًا بعد شيء كانت ثناء؛ فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا.

وقد جمع الله – تعالى – لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة؛ فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال: أثنى على عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مجدني عبدي ([73]).

السادسة والسبعون: من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه ([74]).

وهو أيضًا نوعان:

أحدهما: ذكره بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.

والثاني: ذكره عند أمره، فيبادر إليه، وعند نهيه، فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر؛ فذِكْرُه أفضل الذكر، وأجله، وأعظمه.

فائدة: فهذا الذكر – من الفقه الأكبر وما دونه – أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.

ومن ذكره – سبحانه وتعالى – ذكر آلاءه، وإنعامه، وإحسانه، وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.

فهذه خمسة أنواع.

وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.

وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية.

وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.

فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويَزَع ([75]) عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرة ضعيفة.

السابعة والسبعون: الذكر أفضل من الدعاء.

الذكر ثناء على الله – عز وجل – بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟

ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله – تعالى – والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته؛ كما في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله – تعالى - ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجل هذا».

ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه – عز وجل – والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بعد بما شاء». رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ورواه الحاكم في «صحيحه»([76]).

وهكذا دعاء ذي النون – عليه السلام – قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته: [لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين]».

وفي الترمذي: «دعوة أخي ذي النون، إذا دعا وهو في بطن الحوت [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين] فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له»([77]).

وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام.

ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»([78]).

ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن، وابن حبان في «صحيحه» أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يدعو وهو يقول:

اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

فقال: «والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([79]).

وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، ورجل يصلي ثم دعا: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم».

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([80]).

فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم؛ فكان ذكر الله – عز وجل – والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه.

وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، وأنه يجعل الدعاء مستجابًا.

فالدعاء الذي يقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل؛ فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض – بل صرح – بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضى من السائل، والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعًا، وأتم معرفة وعبودية.

وأنت ترى في الشاهد – ولله المثل الأعلى – أن الرجل إذا توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو، وفقره ومسكنته، كان أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته.

فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر، ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صبر معه، ونحو ذلك؛ كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا.

فإذا عرفت هذا، فتأمل قول موسى - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24].

وقول ذي النون - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].

وقول أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم -: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

وفي «الصحيحين» أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»([81]).

فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه – عز وجل – بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا، فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية.

الثامنة والسبعون: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا.

وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة – ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد – أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله – تعالى – على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه، وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.

وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.

مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.

وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله – تعالى – وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.

وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفسه، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.

فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله – تعالى – الموفق.

وهكذا الصابون والأُشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت.

وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يومًا: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد؛ التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له.

فقال لي – رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!

ومن هذا الباب أن سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعدد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.

ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.

فهذا أصل نافع جدًا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.

وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل؛ لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه؛ فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس، وإن كان القرآن أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة؛ فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت، والله – تعالى – الموفق. اهـ.

وتمت هذه الرسالة المباركة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان آمين.






قديم 16-12-2023, 04:36 PM
  المشاركه #3
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



الشيخ محمد بن صالح العثيمين / سلسلة لقاء الباب المفتوح

https://www.alathar.net/home/esound/...evi&coid=61411




قديم 16-12-2023, 04:37 PM
  المشاركه #4
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



ظاهرة ضعف الايمان


https://kalemtayeb.com/safahat/item/17990




قديم 16-12-2023, 04:40 PM
  المشاركه #5
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



المَقَاصِدُ النُّوْرانِيَّةُ لِسُورَةِ بونُس


http://www.quran-radio.com/?page=one&cat=158




قديم 16-12-2023, 04:40 PM
  المشاركه #6
عضو هوامير المميز
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 720
 



هُنـا تطمئن النفوس

https://t.me/s/quranynbdy?q=%23%D9%8...%A9&after=7049




قديم 17-12-2023, 09:20 AM
  المشاركه #7
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 329,320
 



اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ




قديم 17-12-2023, 09:20 AM
  المشاركه #8
كاتب مميز
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 329,320
 



اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ
كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ







الكلمات الدلالية (Tags)

الوابل

,

الذكر

,

الصحب

,

الطيب

,

فوائد



أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



05:05 PM