نـثـر الدرّ ( من خواطري ) .

إنّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أن يحبّب إليهم الإيمان وأن يزيّنه في قلوبهم ، وأنْ يُكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان : ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) ؛ فكراهة الفسوق والعصيان نعمة من رب العالمين .
أما من يظهر الفساد أو يفاخر به فهو من قال الله تعالى فيه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) . فلا تتحسري على هؤلاء الذين أشرتِ إليهم فإنّ الله لهم بالمرصاد .

أمّا في هذه فأحسب أنكِ على الخبير وقعتِ يا أختاه :
مات أبي رحمه الله وأنا في الحادية عشرة من عمري ، فنشأتُ يتيماً فقيراً لا يكاد يجد من الطعام إلا أقلّ القليل والحمد لله ، ولكن بين جنبيّ نفس طموح لا تعرف الكلل ، فأعانني الله بالصبر والمثابرة ...
وفي ليلة من الليالي رأيت رؤيا أفزعتني : ( رأيتُ أنني أدخل إلى مسرح فيه راقصون وراقصات ، وكنت متأبطاً فتاة جميلة ، وبينما أنا أراقصها التفت إلى جمهور المسرح فإذا من بينهم مجموعة من زملائي في الجامعة وقد جعلوا ظهورهم إلى المسرح وكانوا يقرأون في المصاحف ... فوقفت عن الرقص ، وقلت : أعوذ بالله هؤلاء زملائي فلان وفلان يتلون كتاب الله وأنا أراقص هذه الفتاة الشقراء !!! ) فاستيقظت فزعاً مذعوراً ، وغمّتني الرؤيا كثيراً ...
وأسرعت إلى معبّر للرؤى ، فققصت رؤياي عليه ، فقال لي : رؤيا خير إن شاء الله ؛ إن صدقت رؤياك فستقبل عليك الدنيا ، وسوف ينتفع بها منك ناس كثير ... أما زملاؤك فسوف يبقون في جامعتهم معلمين ..( :5::5::5: ) .
ظلت هذه الرؤيا في مخيلتي بشقيها : دنيا مقبلة + أنفع بها ناساً كثيرين .
وكنت أطرق كل باب تجارة واستثمار ، وأقول : هنا سيكون تأويل رؤياي إن شاء الله ... :5::5::5:
وبعد سنوات قليلة : هبطت عليّ ثروة من رب العالمين وحده ؛ فلم تكن هبة سلطان ، ولا ميراث غنيّ ، ولا شبهة فيها من حرام ، ولا مكروه ، بل هي توفيق من رب العالمين ...
ولكنها مع الأسف الشديد جاءت بعد رحيل أمي رحمها الله التي ربتني بعد رحيل أبي رحمه الله ...
وهكذا فتح الله عليّ باب رزقه حتى صار يدق عليّ بابي كل حين ...
ساعة تحققت الرؤيا في شقها الأول لم أنس الشق الثاني منها والحمد لله ، فأغدقت على ذوي رحمي ومن أعرفه من المحتاجين موقناً يقيناً لا يقبل الشك أنّني لست من يعطي ، بل الله هو المعطي ، وأن المال ليس مالي بل هو مال الله استخلفني عليه : ( وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) محسناً كما أحسن الله إليّ : ( وأحْسِنْ كما أحسَنَ الله إليك ) ، وراغباً في أن يجعلني الله من المفلحين : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، ومتذكراً قول الله تعالى : ( إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) نعم إنني موقن يقيناً لا يزعزعه شك أنّ ما ينفقه المؤمن نتيجته : مضاعفة في الدنيا + غفران وأجر كريم في الآخرة .
إنّ من يتدبّر ما ذكره الله تعالى عن فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : ( تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ) ليقولنّ : يا ويلاه !!! ماذا سنقول لربنا حينما لا ننفق ونحن أغنياء ، وهؤلاء أسلافنا تفيض أعينهم ( ما أروع التعبير بـ" تفيض " ) من الحزن أنهم لا يجدون ما ينفقون !!!
أفبعد هذا يا أختي يبخل واجد ؟
أفبعد هذا يا أختي لا يقرض الله مقرض ؟

عذراً يا أختي ؛ إنّما تحدثت عن نفسي _ والله يعلم رياءً ولا سمعةً _ ولكنه حديث القلب إلى القلوب لعلّي أكون سبباً في التحفيز على الخير .

ولك تحيّاتي .

هذا يدلّ على صدق النظريّة التي تقول : إننا لا نقرأ بعيوننا ، بل بذاكرتنا .

( الناجح مَنْ يحرصُ على علاقاته أكثر من حرصه على ممتلكاته ) .

أشكر لك إطلالتك البهيّة على خزانة جواهري ، واختيارك ياقوتة منها تدلّ على ملكة رفيعة في الذوق السليم .
لك تحياتي .

حيثما يوجد قلب فله عند الأدباء نفثات ساحرة ، لكن أين هي القلوب ؟